الكرة وصناعة المعركة !ه
ما أصعب الكتابة ضد التيار .. تحتاج إلى حكيم ، وما أنا بحكيم .. ليس لأن التيار هو “نظام دولة” يملك السيف والذهب ، وربما كان السيف يكفي ، فهذا مجال نسأل الله تعالى أن نصل فيه إلى “سيد الشهداء” (اللهم ارزقنا الإخلاص والثبات) .. إنما لأن التيار هو تيار شعبي عفوي ، فهو وإن افتقد سيفا وذهبا فإنه الماء الذي لا يمكنك الحياة بدونه .. أو تلك هي حقيقة الغربة
(1)
في خاطري هذه الفكرة منذ مباراة كأس الأمم الآسيوية التي فاز فيها فريق العراق على فريق السعودية ، ويالها من فرحة اهتزت لها شعوب العالم الإسلامي جميعا .. قد كانوا يتحرقون ويشتعلون كأنما لهيب النار يجري في دمهم طمعا في فوز العراق .. عنوان الألم والجرح
وقد عادت إلى بقوة حين ابتدأ كأس الأمم الإفريقية منذ أيام .. في ذلك الوقت كانت غزة تموت بالقتل البطئ ، والناس شاردة ترقب أحوال الفرق في غانا .. وراودني – ذلك الوقت – أن أكتب ” مصر تتعلق بالأحذية ، ولا تحفل للموتى في غزة ” .. وما أزال أتذكر الغضب في نفسي ثم في نفوس الغرباء من أمثالي ، حتى اشتط بنا الغضب فتمنينا أن تنهزم مصر لكي يفيق الناس من خمر الكرة وينتبهوا إلى من هم على وشك الموت في غزة ، ولا أزال أتذكر صديقا دعا بكل حرقة : ” اللهم لا تفرح أحدا اليوم لم يحزن من أجل غزة ”
ولا تلمني ياصديقي ، وقل ما تشاء .. إنما أحكي لك الحقيقة ، وقد اعترفت لك أني لست بحكيم
والحمد لله تعالى ، ما ظنناه شرا كان خيرا .. واقتحم الأبطال – أبطال غزة هذه المرة – سجنا فرضه عليهم الطغاة فحلوا أهلا ونزلوا سهلا ، وانتفض ضدهم الإعلام المصري فكان من فضل الله – الذي لم نحط به – أن الناس كانوا مازالوا يتابعون الكرة في غانا وما حفلوا بالحملة المسمومة كثيرا
والتأمت نفسي ونفوس الغرباء .. لقد انقضى كرب غزة – ولو مؤقتا – وجاز لي ، بعدما حرمته على نفسي ، أن أشاهد مباريات مصر وأخطف شيئا من فرحة في ليلنا الذي أرخى سدوله بأنواع الهموم كما وصفه امرؤ القيس
(2)
حاولت كثيرا قبل كتابة هذه السطور أن أجد التعبير المناسب لأصف القيمة الحقيقية للفوز بكأس إفريقيا ، فلم أجد .
إن الألفاظ الرياضية قد اكتسبت معاني كبيرة وعظيمة ، ووضعت إلى جانب الإنجازات الكبرى الحقيقية والتاريخية فصارت ذات رنين جبار ساحر .
إذا حاولت أن أقول : ” ماهو الإنجاز البشري أو التاريخي الذي يعنيه الفوز بكأس الأمم الإفريقية ؟ ” فإن الذي يتحمس للفوز سينظر – أو يقرأ – في اشمئزاز معطيا إياي لقب “المتخلف” وليس “المختلف” ، إن لم يسلبني صفة “الوطنية” .. وقد فعلها معي البعض فعلا .
ماذا أقول لكي أحاول وضع الأمر في حقيقته : ” كأس رياضي” أو “كأس كرة” أو ” مباراة كرة ” أو ” مجرد لعبة ” أو ” الأمر لا يعدو كرة دخلت بين ثلاث خشبات” .. كل هذه الألفاظ وغيرها لا تصلح أن تصف الحقيقة ، لأن “مجرد دخول الكرة بين ثلاث خشبات” يمثل بالنسبة للكثيرين حلما كبيرا وأملا عريضا ، و لأن “الفوز بالكأس” أصبح يعني في النفوس معاني النصر والعزة والمجد والفخار .
إن أحد وجوه العار هو قول المعلق على مباراة مصر والكاميرون أمس بأن اللاعبون يجب أن يوضعوا إلى جوار أحمد زويل .. هذا هو السفه بعينه ، وماذا يمكن أن يسمى الجنون إن لم يكن هذا ؟؟
الفشل في اختيار لفظ يمكن أن يصف للقارئ حقيقة أن كل الكأس الإفريقية ليس لها وزن أبدا في مجال الإنجاز البشري ولا الأيام التاريخية ولا تعني بأي حال معاني النصر والعزة والمجد .. الفشل في هذا يجعلني أقول : بئس وطن يتعلق بالأحذية ، ويا تعسا لأمة لا تساوي أحذية اللاعبين بعقول العلماء !
إنها – يا صديقي – صناعة المعركة !!ه
انظر كيف تحول الشيء التافه الذي لا يرفع أمة ولا يضعها إلى أحلام وآمال ، تحترق فيها الأعصاب والنفوس ، وتشهق لها القلوب ، وتضطرب لها أحوال الناس !!ه
إن الإعلام يثبت أنه قادر على صناعة المعركة الوهمية .. وقادر على دفن المعارك المصيرية ، ولا ينبئك في هذا مثل أهل غزة ، وسائر المسلمين المذبوحين شرقا وغربا
(3)
لكن ..ه
وإن كنت قلت ما فات ، إلا أن الإنصاف والحق يجبرنا على أن نقول ما هو آت .
إن المعركة وهمية .. نعم ، ليس لها وزن في عالم الحقيقة .. نعم ، لكن لا يفوت أي مهتم بأحوال الشعوب أن يحاول النظر في هذه المعركة – وإن كانت وهمية – ليرصد من خلالها نبض الشعوب .
ه1- الفراعنة الذين سجدوا
ورغم أنهم يسجدون ، ويرفعون المصحف – كما فعل “علاء نبيل” ( إن صح الاسم فهذه المعلومة عن صديق خبير بالكرة ) بعد الفوز بالكأس – وتلمح في عيونهم الرجاء والتعلق بالله .. إلا أن إصرارا غريبا – كثير منه غير مقصود – على أنهم “فراعنة” .. ليسوا حتى السحرة الذين سجدوا لله واتبعوا موسى ، بل “الفراعنة” .ه
هل – إلا أعمى – لا يرى في هذا السجود المتكرر وبعد كل هدف ، وبعد كل مباراة ، وجماعيا مرات وفرديا مرات أكثر ، هل – إلا أعمى – لا يرى في هذا نبضا من نبضات الشعب المصري ؟؟
صديق لي لما سمع “محمود معروف” على قناة النيل للأخبار يقول إن ” أسباب الفوز هو التعلق بالله ، والإيمان العميق ، يستيقظون فيصلون الفجر ويستحضرون الملائكة .. ” هتف قائلا : لقد سقطت العلمانية في مباريات الكرة !! .. وصدق .
لم يكن يوما للعلمانية عمق في أرض الكنانة .. حفظها الله من كل سوء .
ه2- أبو تريكة
يظل كبيرا رغم هدوءه ، وعظيما في تواضعه ، ولاعب كرة موصول بقضايا دينه وأمته .. “صانع حياة” ما في هذا شك ، ورغم ابتعاده عن الكاميرات وحديثه الممتلئ حياءا ، وملامحه التي تسيل وداعة فإن قياديته وأخلاقه وتأثيره على من حوله لا تخطئه عين من خلال أحاديث زملائه .. لا أتصور أن يكون “أبو تريكة” واحدا من “الفراعنة” .. تبدو كلمة “فرعون” وكأنها غير منسجمة مع هذا الوجه وهذه الأخلاق وهذا الانتماء الإسلامي العميق .
تعاطف مع غزة .. نعم التعاطف ، موقف بيض وجوه المصريين جميعا أمام أهلهم في غزة ، وأخبرهم أن القاعدين على كراسي الصحف ليسوا إلا القشرة الغبية الصلدة الصدأة التي تغطي اللؤلؤة الحبيسة .. وكانت أول مرة أصفق فيها أمام مباراة وما كنت أصفق لها بل له .. لذلك التعاطف ، ولذلك الذي اجتهد وفكر وكتب “تعاطفا مع غزة” ودعا الله في إخلاص وتضرع أن يعطيه الفرصة ليكشف عن هذا التعاطف ، فأعطاها له الله .. كنت أصفق له من قلبي ، لكن الذي في قلبي – والله – أكبر من أن يترجم إلى عمل
زادك الله رفعة يا “أبو تريكة” .ه
ه3- من قال إن المصريين سلبيين ؟
قد أكون قلتها من قبل .. لكنني أعترف أن المصريين ليسوا سلبيين ، وهو ليس اعترافا وليد الكرة ، بل منذ نظم طلاب الإخوان في كليتنا يوما لليتيم في إبريل 2006 ، لقد كان الإقبال مدهشا ، وحجم الأموال التي أنفقها الطلاب على اليتامي فاق خيالي تماما .. وكان الموقف يدعو إلى تأمل ، خرجت منه بأن الناس إذا اطمأنوا إلى أن عملهم له ثمرة ولن يضيع اندفعوا له ، وأكد هذا لي وقوف الناس وراء الإخوان المسلمين في انتخابات البرلمان المصري بعدما بدا أن إشراف القضاء يمنع ضياع الصوت الانتخابي .
إن فريق الكرة يجني حصاد أقدامه ، ليس في الملعب واسطة ولا سلطة سياسية ولا نفوذ ، ولن يستطيع أحد من الخارج أو الداخل وراء نطاق الملعب أن يعطي الفوز لغير المستحق أو ينزعه ممن يستحق .. ولهذا ، فإن الثمرة حاضرة .. من جد وجد ، ومن زرع حصد .. والناس يدعمون هذا الجهد بكل ما في قلوبهم من حرقة ، وبكل ما يملكون من حماس .. بكل صدق ، وإخلاص ، ووطنية .. نعم وطنية ، فإن كان يسوءني حقا أن الوطنية تتقزم حتى يحتويها ملعب الكرة وتترجمها قفزات كرة ، فإن ما يسكرني أن المصريين ينتمون لبلادهم رغم كل ما ذاقوا منها ، أو ممن تغلب عليهم وعليها .
ه4- أمة واحدة رغم أنف الحاقدين
تشجيع العرب لمصر ، وما رأيناه من احتفالات في بعض العواصم ، وما قرأناه في المنتديات المختلفة .. يؤكد أننا أمة واحدة .. رغم أنف الكارهين ، ورغم أنف من يرفعون شعار : “مصر أولا” وهم يقصدون سلخها من جلدها ومن تاريخها .. لم تكن مصر بهذا القدر في القلوب والعقول إلا لأنها عربية مسلمة ، جهادها هو أول من صنع لها هذه المكانة ( خير أجناد الأرض ) و أزهرها هو أكبر من صنع لها هذا التاريخ .. ارتباطها بقضايا أمتها هو الذي يصنع منها ثقلا في السياسة .. لسنا مدغشقر أو تايوان أو بروناي ، يفرح لفرحنا كثير ويحزن لحزننا كثير ، ويضيع بضياعنا كثير .. مصر أولا إذا كان هذا لصالح الأمة ، أما إذا كان هذا لسلخها وحذف تاريخها وقتل رسالتها فـ “طظ” في رافعي هذا الشعار ، وليس في مصر .. فهي لن تكون كذلك أبدا
مبارك للفريق المصري المسلم ، لا للفراعنة .. وعسى يوما قريبا نفرح لإنجاز حقيقي وتاريخي .
وما بين طرفة عين وانتباهتها *** يغير الله من حال إلى حال .
المصدر
http://www.tadwen.com/melhamy/?p=381
No comments:
Post a Comment